الأنفال هي الغنائم التي يحصل عليها المسلمون من جهادهم لأعدائهم، وقد ورد في حكمها قول الله تعالى: {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين} (الأنفال:1) ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات ثلاث نذكرها تالياً.
الرواية الأولى: روى مسلم عن سعد رضي الله الله عنه، قال: قال: نزلت فيَّ أربع آيات: أصبت سيفاً، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! نَفِّلْنِيهِ، فقال: (ضعه) ثم قام، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ضعه من حيث أخذته) ثم قام، فقال: نَفِّلْنِيهِ يا رسول الله! فقال: (ضعه) فقام، فقال: يا رسول الله! نَفِّلْنِيهِ، أَؤُجْعَلُ كمن لا غناء له؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ضعه من حيث أخذته) قال: فنزلت هذه الآية: {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول}. والحديث رواه أيضاً أحمد وأصحاب السنن إلا ابن ماجه.
الرواية الثانية: روى أبو داود والنسائي في "السنن الكبرى" عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: (من فعل كذا وكذا فله من النفل كذا وكذا) قال: فتقدم الفتيان، ولزم المشيخة الرايات، فلم يبرحوها، فلما فتح الله عليهم، قال المشيخة: كنا ردءاً لكم، لو انهزمتم لفئتم إلينا، فلا تذهبوا بالمغنم ونبقى، فأبى الفتيان، وقالوا: جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا، فأنزل الله: {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول} إلى قوله: {كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون} (الأنفال:5) يقول: (فكان ذلك خيراً لهم، فكذلك أيضاً فأطيعوني، فإني أعلم بعاقبة هذا منكم) الحديث صححه الشيخ الألباني، وهذا لفظ أبي داود.
الرواية الثالثة: روى الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فشهدت معه بدراً، فالتقى الناس فهزم الله العدو، فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون ويقتلون، وأكبت طائفة على العسكر يحوونه ويجمعونه، وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصيب العدو منه غرة حتى إذا كان الليل، وفاء الناس بعضهم إلى بعض قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها وجمعناها فليس لأحد فيها نصيب. وقال الذين خرجوا في طلب العدو: لستم بأحق بها منا نحن نفينا عنها العدو وهزمناهم. وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم: لستم بأحق بها منا نحن أحدقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وخفنا أن يصيب العدو منه غرة واشتغلنا به، فنزلت: {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم} فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على فَوَاق -أي: في قَدْر فَوَاق ناقة، وهو ما بين الحَلْبتين- بين المسلمين. قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أغار في أرض العدو نَفَلَ الربع، وإذا أقبل راجعاً وكُلَّ الناس نَفَلَ الثلث، وكان يكره الأنفال ويقول: (ليرد قوي المؤمنين على ضعيفهم). قال محققو المسند: حسن لغيره، وإسناده قد اختلف فيه على عبد الرحمن بن الحارث بن عياش أحد رواته.
كذا جاء في سبب نزول هذه الآيات الكريمة، وقد أورد المفسرون هذه الأسباب عند تفسيرها، كالطبري، والبغوي، وابن العربي، وابن عطية، والقرطبي، وابن كثير، وابن عاشور، والشنقيطي.
فأما حديث عبادة رضي الله عنه فقد قال عنه البخاري: لا يثبت، وهذا يؤيد ويؤكد ما ذكره محققو "المسند" من أن إسناده قد اُختلف فيه على أحد رواته.
فيبقى النظر حينئذ بين حديث سعد في أن الآية نزلت فيه، وحديث ابن عباس في أن الآية نزلت في اختلاف الصحابة في المغنم يوم بدر.
فأما حديث سعد رضي الله عنه فيعضده أمور:
1- أن أحد رواته الإمام مسلم.
2- أن سعداً رضي الله عنه صاحب القصة، وصاحب القصة غالباً أعلم بها من غيره.
3- أن سعداً رضي الله عنه كان يصرح بنزول أربع آيات فيه، هذه الآية إحداها.
وأما حديث ابن عباس فيؤيده لفظ الآية؛ فإن الله قال في كتابه: {يسألونك} ولم يقع في حديث سعد رضي الله عنه سؤال؛ ولهذا قال القرطبي عن حديث سعد: "يقتضي أن يكون ثم سؤال عن حكم الأنفال، ولم يكن هنالك سؤال عن ذلك على ما يقتضيه هذا الحديث، وقال بعضهم: إن (عن) بمعنى (من) لأنه إنما سأل شيئاً معيناً وهو السيف).
ثم إن الله قال: {يسألونك عن الأنفال} أي: عن حكمها، وقَسْمِها، ومشروعيتها، وهذا لم يقع في حديث سعد، بل الذي وقع في حديثه أنه سأل نفلاً، وفرق بين من يسأل عن الشيء، وبين من يسأل الشيء، فالأول مستفهم، والثاني يريد العطاء.
ثم في السياق أيضاً قول الله: {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم} وليس في حديث سعد فساد ذات البين، بخلاف حديث ابن عباس، فإنهم تنازعوا في المغنم، وإلى هذا الخلاف أشار عدد من المفسرين نظراً إلى سياق الآية؛ قال ابن عطية: "فيجيء من مجموع هذه الآثار أن نفوس أهل بدر تنافرت، ووقع فيها ما يقع في نفوس البشر من إرادة الأثرة، لا سيما من أبلى، فأنزل الله عز وجل الآية، فرضي المسلمون وسلَّموا، فأصلح الله ذات بينهم، ورد عليهم غنائمهم".
وقال السعدي: "وكانت هذه الآيات في هذه السورة، قد نزلت في قصة بدر، أول غنيمة كبيرة غنمها المسلمون من المشركين، فحصل بين بعض المسلمين فيها نزاع، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فأنزل الله: {يسألونك عن الأنفال} كيف تقسم وعلى من تقسم؟".
وقال الشنقيطي: "جمهور العلماء على أن الآية نزلت في غنائم بدر، لما اختلف الصحابة فيها، فقال بعضهم: نحن الذين حزنا الغنائم وحويناها، فليس لغيرنا فيها نصيب، وقالت المشيخة: إنا كنا لكم ردءا لو هزمتم للجأتم إلينا، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم".
وقال ابن عاشور: "وعطف الأمر بإصلاح ذات البين؛ لأنهم اختصموا، واشتجروا في شأنها، كما قال عبادة بن الصامت: (اختلفنا في النفل، وساءت فيه أخلاقنا) فأمرهم الله بالتصافح".
وبما تقدم يتبين أن أسعد الدليلين بالآية، وأحرى الحديثين بها حديث ابن عباس رضي الله عنهما؛ لما بين الآية والحديث من الموافقة والمطابقة.
فإن قيل: كيف تجيب عن حديث سعد -وهو عند مسلم- بأن الآية نزلت فيه؟ فالجواب: أن لفظ الترمذي لحديث سعد جاء فيه: قال: (لما كان يوم بدر جئت بسيف، فقلت: يا رسول الله! إن الله قد شفى صدري من المشركين، أو نحو هذا، هب لي هذا السيف، فقال: (هذا ليس لي، ولا لك) فقلت: عسى أن يعطى هذا من لا يُبْلِي بَلَائِي، فجاءني الرسول فقال: (إنك سألتني، وليس لي، وقد صار لي، وهو لك) قال: فنزلت {يسألونك عن الأنفال}.
فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا ليس لي، ولا لك) هنا لم يقع التنازع بين المسلمين بعدُ في شأن الغنائم، فلما وقع وأنزل الله فيهم الآية، جاء إليه، وقال له: (إنه قد صار لي، وهو لك). وقوله: فنزلت: {يسألونك عن الأنفال} ظناً منه أنها نزلت فيه؛ لقرب قصته من قصتهم، وإلا فالأمر ليس كما ظن.
وربما دل هذا اللفظ على أن قصة سعد ليست سبب نزولها، ولهذا قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا ليس لي، ولا لك) ولو كان سؤال سعد سبب نزولها، لقال: فنزلت الآية، لكنه أخَّر النزول حتى قال: فجاءني الرسول، فقال: (إنك سألتني، وليس لي، وإنه قد صار لي، وهو لك) فدل هذا على وقوع فاصل الله أعلم بزمنه.
فتحصل مما تقدم، أن سبب نزول الآيات الكريمة حديث ابن عباس رضي الله عنهما في اختلاف الصحابة، وتنازعهم يوم بدر في الغنائم، وذلك لصحة سنده، وموافقته لسياق القرآن، واعتماد جمهور العلماء عليه كما قاله الشنقيطي.
|